إشـراقـــةٌ

 

 

 

 

ما يجب أن تتقيد به القيادة الإسلامية اليوم

 

 

 

 

 

     في الوضع المعاصر المُعَقَّد الذي ازداد التواءً وفسادًا بما كسبت أيدي الناس ولاسيّما الأوروبيين الذين كأن الله خلقهم ليَفْسُدُوا ويُفْسِدُوا في الأرض وليستحقّوا اللعنةَ من الله بمناصبتهم العداءَ المنقطع النظير للإسلام دين الله الأخير والمسلمين الذين رضوا به الإسلام دينًا وبالله رَبًّا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم  - نبيًّا ورسولاً.. في هذا الوضع لايتمكن من أداء دوره في خدمة الإسلام إلاّ القائد والحاكم الذي يكون قد أتيح له أن يتمتع بصبر أيوب عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ وحكمة لقمان عليه السلام وحلم الأحنف بن قيس (ت 72هـ /691م) وذكاء قاضي البصرة إياس بن معاوية المزني (ت 122هـ/ 739م) وعمق البحر وهدوء الصحراء وبمسحة من مكارم الأخلاق التي جاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم  - يُتَمِّمُها .

     ورغم ذلك قد يظلّ مُعَرَّضًا لدسيسة الغرب ومكره ودهائه؛ حيث إنه الغرب سيظل يُعْمِل شَامَّتَه التي هي كشامّة النمل، وعينَه التي هي كعين الغراب، ليتحسّس جميعَ حركاته القائد والحاكم المسلم وسكناته، ليُغْرِيَ به شعبَه وشعوبَ العالم كلّه، لينتقم منه لقاءَ عمله لصالح الإسلام والمسلمين.

     إن ضياء الحق الرئيس الباكستاني الأسبق (ش: 1409هـ/1988م) كان يتمتع بالسلاحين كليهما: الصبر والحكمة؛ ولكن الغرب وأمريكا وجميع أعداء الإسلام في العالم تَحَسَّسُوا فيه الإسلاميّةَ، وحبَّه لدينه وعقيدته، وشعبه وبلاده، وأمته ومصالحها، وأدركوا ما ترتب وسيترتب على حبّه هذا من الآثار البعيدة المدى لصالح الإسلام والمسلمين؛ فلم يلبثوا أن صَفَّوْا الحسابَ معه، واغتالوه خلال رحلة الطيارة التي حطّموها وفجرّوها في الجوّ بدهاء عجيب عَمِيَ ولا يزال حتى على أعقل المُعَلِّقين والمُحَلِّلِين في العالم.

     وإن الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية الأسبق (ش: 1395هـ/1975م) قد تحدّى أمريكا والغرب لانحيازهما السافر إلى الدولة الصهيونية، فلم يلبثا أن اغتالاه وهو في مكتبه عن طريق أقرب أقربائه فيصل بن مساعد بن عبد العزيز ؛ لأنهما كانا يريانه أكبر صخرة أمام المد الصليبي الصهيوني وأقوى ملك معاصر شدّ أزره لخدمة الإسلام والمسلمين، واتخذ أدعية السحر زادًا له وسلاحًا في سبيل ما يود تحقيقه من نهضة الإسلام والمسلمين؛ فقد أوقف فعلاً شحن النفط السعوديّ إلى أمريكا بدءًا من 22/رمضان 1393هـ الموافق 26/أكتوبر 1973م مستخدمًا هذا الذهبَ الأسودَ سلاحًا أمضى في وجه هذا العدو الصليبي الصهيوني الذي وقف في الحرب العربية الإسرئيلية عام 1393هـ/1973م بجانب إسرائيل بوجه سافر ولا يزال يفعل مع الإسلام والمسلمين الأفاعيل التي يشاهدها العالم كلّه.

     العاطفيّة والتهوّر والارتجاليّة والقواليّة والادِّعائيّة والمواقف الإثاريّة الخرقاء سلاح لايعمل في الأعداء بمثل ما يعمل في الأصدقاء، إنه ينفع الأعداء بكل شكل ويضرّ الأصدقاء بكل طريق؛ حيث لايستفيد منه إلاّ الأعداء الذين نودّ أن نحاربهم. الصبرُ والاحتمال، والتعقل والحزم، والحلم والأناة، والتزام الهدوء حتى في أحرج المواقف وأشدّ الساعات المثيرة المهيجة، سلاحٌ في يد القائد المحنك الخبير يعمل في كل موقف، وينفع في كل مأزق، ويضمن النصر مهما كان الخصم مدججًا بكل الأسلحة الفتاكة.

     المرحليّةُ والإقدامُ بخطوة وخطوة بنحو وئيد، مهما كان الموقف يقتضي التسرّعَ، والقفزَ الواسعَ إلى الهدف البعيد والمرمى الطويل، هما الضمان الوحيد لكل قائد عاقل لكسب النجاح في عصر انتصار الغرب والقيادة الأمريكية الغاشمة التي تغض الطرف عن جميع الحقائق، ولا تبصر إلاّ مصالحها الصليبية الصهيونية.

     قد تقتضي الغيرة الإسلامية فيما يبدو أن يتسارع القائد إلى إحراز النصر، وتحقيق ما يتراءى من المكاسب الحلوة؛ وقد يبدو أن العمل بالتباطأ ضدّ النخوة الإيمانية والإباء الدينيّ؛ لكن الفراسة الإيمانية وحدها التي ستملي عليه القائد أن لايتسارع، ويتمالك نفسه، ولايدوي بل لايُحَدِّث حتى نفسه؛ وإنما يناجي فقط ضميرَه؛ ويعمل بكامل السرّيّة والخفاء، حتى قد يتنازل في الظاهر عن بعض الحقوق الدينية لكي يستوفي الحقوق كلَّها في المرحلة اللاحقة.

     الاستعراض الخاطف للإخفاقات التي حصدته القيادة الإسلاميّة في العصر الحاضر، يؤكّد أنّها إنّما كانت ناتجة عن التهوّر أو التسرّع، وعدم الصبر والاحتمال، وعدم الحلم، وفقدان الحكمة والتعقل العملي المطلوب. الوضعُ الحالي: وضعُ سيطرة الغرب وتحكّم أمريكا في شؤون العالم يفرض علينا أن نتخلّى عن كل شيء من شأنه أن يُصَنَّف ضمنَ «التسرّع» و«التحدّي» و«القوّاليّة» و«الادّعاعيّة» و«الإثارة» و«اللامرحليّة» و«القفز إلى الأهداف» و«اللاحلم» و«اللاصبر» و«اللا احتمال».

     لقد أسخطني حقًّا قولُ مفكر إسلامي مصري وَجَّهَه إليّ لدى حضوري أحدَ مؤتمرات وزارة الأوقاف في فندق عمر الخيام على ساحل النيل في القاهرة وهو يحارني في موضوع العمل الإسلامي في الوضع الحاضر ولاسيّما في مثل بلاد الهند التي تموج فيها الديانات وتتغلب فيها الهندوسيّة: اِحلق اللحية اذا اقتضت مصلحة إسلامية ملحة منك ذلك، ورأيت أنك تربح الكثير إزاء خسارة القليل من المصلحة الدينية؛ لأن اللحية سنة، فإذا رأيت هناك فرائض تحتاج لإحيائها أن تضحي بالسنة فضَحِّ بها. عليك أن تستحضر أنك جنديّ من جنود الله في الكون فلا بدّ أن تتصرف تصرُّفَ الجنديِّ الحقِّ الذي يتخذ في كل ساعة موقفًا تفرضه عليه الساعة.

     وكان سخطي من قوله ناشئًا عن إيماني بأن اللحية ليست سنة فقط وإنما هي من الشعائر الدينية التي تميز المسلم عن غير المسلم؛ ولكني عندما فكرتُ طويلاً في معنى قوله، أدركتُ أنه يثير معاني وحقائق كثيرة في مكانه. والمسلم قد يحتاج حقًّا أن يُضَحِّي بالأقلّ لقاءَ الأكثر، وبالأدنى تجاه الأفضل. وهناك مواقف حيّة في حياة الأمة تجلي هذه المعاني وتُبَلْوِرها بشكل لايحتاج إلى شرح.

*  *  *

     النموذج التركي الحالي للقيادة الإسلاميّة، خير نموذج لكل قائد يودّ في إخلاص أن يعمل للإسلام، فتيحرز النصر تلو النصر دونما إخفاق يعترض سبيلَه. القيادة التركية العاملة للإسلام في صمت، وفي هدوء، وفي خفاء، وفي صبر، شقت طريقها من الصخر الصماء، و واصلت سيرها بين الشوك والقتاد، ومهدت السبيل للإسلام في بلد كان دستوره قد حَرَّمَ على أهله النطق بالإسلام بشكل صريح، وكان يعرض نفسَه للخطر: خطر الإعدام شنقًا من تشمّ منه رائحة الإسلاميّة والعمل على إحياء الإسلام في هذه الديار التي ظلت عبر قرون عاصمة الخلافة العثمانية الإسلاميّة؛ ولكن السير بخطوات وئيدة نحو الغاية مَهَّدَ الطريق إلى الإسلام من جديد.

     لأنّ القيادة الإسلامية التركية لم تحاول أن تنفذ كل الإسلام بين عشية وضحاها؛ لأنها لو صنعت ذلك لخسرت الإسلامَ كلَّه، فرضيت في سيرها نحو الإسلام من الإسلام بما أتيح لها أن تناله، ولم تصرّ على أنها لن ترضى إلاّ بكل الإسلام، ولن ترضى تبعيضَه وتجزئته؛ لأن الدين هو حقّها الطبيعيّ؛ لأن هذا الإصرار كان ليسدّ الطريق كلَّه في وجهها؛ حيث إن الدستور العلماني الذي وضعه كمال أتاترك وطبقه الجيش التركي العلماني من أخمص قدميه إلى قمة رأسه في أمانة وإخلاص، وظلّ الحارس المتيقظ له، جَرَّم على أهله الجهر بشعائر الإسلام والإصرار على العمل بها.

     القيادة الإسلاميّة التركية مُفْعَةٌ كغيرها من القيادات الإسلاميّة غيرةً إسلاميّة؛ بل ربّما تكون هي أشدّ غيرة من غيرها، وغيرتُها هي تقتضي منها أيضًا أن تأخذ عاجلاً بكامل الإسلام، وأن لا ترضى ببعض الإسلام؛ ولكنها تعلم أنها لو سارعت إلى الكل لفقدت حتى البعض، فخير لها أن تخطو إلى الكل خطوة خطوة، وتتقيد بالصبر والحلم، وتعمل بالحكمة والرويّة. وموقفُها ذلك أثمر بشكل صار صيغةً نموذجيّةً لكل القيادات التي تودّ أن تعمل اليوم للإسلام، دونما إثارة لغضب أمريكا، وسخط الغرب الصليبي الصهيوني، الذي يثيره للغاية حتى مجردُ اسم «الإسلام» فكل شيء ينتمي إلى الإسلام يُسْخِطه ويفقده رشده، ويجعله يُجَنّ جنونُه.

     وتلك الحكمة نابعة من الحكمة القرآنية الربانية؛ حيث إنّ القرآن لم ينزل بتحريم الخمر تحريمًا قاطعًا في المرحلة الأولى، وإنما تدرّجَ إلى التحريم؛ حيث، نزل يُكَرِّهُها إلى القوم، ويقبّحها إليهم، ويبيّن لهم مضارها، ثم نزل بتحريمها.

     فالقيادة الإسلامية اليوم مطالبة بأن تتقيد بالحكمة والحلم والصبر، حتى تحقق المكاسب، وتتفادى من المضار والإخفاقات.

أبو أسامة نور

 

( تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الاثنين : 5/ جمادى الأولى1432هـ  الموافق 9/ مايو 2011م) .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب  1432هـ = يونيو  2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35